رقابة المجلس الأعلى على
محاكم الموضوع في المواد المدنية
محاولة للتمييز بين
الواقع و القانون
من إعداد الأستاذ محمد
الكشبور
سادسا – خطة البحث:
للتمييز بين الواقع والقانون، أي ما يدخل وما لا يدخل ضمن المجال الذي تراقبه
محكمة النقض، لابد في مرحلة أولى من بيان المقصود بكل من الاصطلاحين السابقين
الواقع من جهة والقانون من جهة أخرى.
وإذا كان ذلك ممكنا بالنسبة للقانون كمجموعة من القواعد التي تطبق وجوبا من
طرف محاكم الموضوع على النزاعات المحمولة إليها، والتي تخضع لرقابة محكمة النقض،
فإن ذلك يبقى مستحيلا بالنسبة للواقع والسبب في ذلك هو أن القواعد القانونية، ورغم
تنوعها محددة يسهل الوقوف عليها، في حين أن الوقائع متغيرة ومتطورة لدرجة تستعصي
معها على كل ضبط أو تحديد. بل إن الواقع مرتبط بتطور المجتمع، في كل يوم يُخلق منه
جديد.
يبقى أن نبين المقصود بفكرة القانون في منظور قضاء النقض، وعن طريق الاستبعاد،
نقول إن كل ماعدا ذلك يندرج في مجال الواقع، والذي يدخل استخلاصه ضمن السلطة
التقديرية المحاكم الموضوع.
ومن جهة أخرى، فإن قاضي الموضوع، وهو في تأدية وظيفته، يقوم مبدئيا بعمليات
ثلاث :
· الأولى : تتمثل في التعرف على الوقائع محل
النزاع.
· الثانية : تتمثل في تكييف هذه الوقائع.
· الثالثة : تتمثل في تطبيق حكم القانون على
تلك الوقائع طبقا لتكييفها الصحيح.
فمن خلال المراحل الثلاث السالفة الذكر، فإن قاضي الموضوع قد يمارس نشاطا يتصل
بالواقع، وقد يمارس نشاطا يتعلق بالقانون. فما مجال الواقع وما مجال القانون في كل
هذا النشاط ؟
لقد أدرجنا كل هذه المسائل في باب أول عنوناه بمجال رقابة محكمة النقض.
وقد قسمناه إلى فصلين، خصصنا الأول منهما لتحديد مفهوم القانون من وجهة قضاء النقض، وخصصنا الثاني لمسألة القانون والواقع من خلال النشاط المبذول من جانب قضاة الموضوع.
ويباشر المجلس الأعلى - باعتباره محكمة نقض ـ وظيفته الأساسية، والمتمثلة في
رقابة الجانب القانوني من نشاط قاضي الموضوع، من خلال أسباب للطعن بالنقض، والتي
يلزم الطاعن التمسك بها حتى يصير طعنه ممكن القبول.
ولقد أبرز المشرع المغربي هذه الأسباب من خلال الفصل 359 من قانون المسطرة
المدنية الحالي. ويلاحظ المتمعن جيدا في أسباب الطعن بالنقض هذه أنها تنقسم إلى
قسمين رئيسيين: القسم الأول ينصب على الأخطاء التي تشوب القواعد القانونية، سواء
أكانت هذه القواعد موضوعية أم كانت إجرائية، والثاني ينصب على الأخطاء التي تمس
مجال تسبيب الأحكام، كانعدام ذلك التسبب أو قصوره أو غموضه مثلا.
ويبدو أن دراسة أسباب الطعن بالنقض أمر ضروري للوقوف على كيفية تعامل المجلس
الأعلى مع الأخطاء المشمولة برقابته، وبالتالي تكملة ما الدرج في الباب الأول - أي
مجال رقابة محكمة النقض - ولذلك سنخصص لهذه الأسباب الباب الثاني من هذه الدراسة.
وسنقسم هذا الباب بدوره إلى فصلين تخصص الأول لأسباب الطعن المبنية على خرق
القانون بصفة عامة، وتخصص الثاني لأسباب الطعن المبنية على خلل في التسبيب.
ومن الناحية التاريخية، فقد عرف الفقه الإسلامي الطعن بالنقض كما عرف فكرة
التمييز بين الواقع والقانون. إلا أنه نظام يظهر أنه يختلف في شكله وفي جوهره عن
نظام الطعن بالنقض كما نظمته القوانين الوضعية حاليا، وإن كانت الغاية في النظامين
واحدة، فهناك وجوب احترام التشريع الوضعي، وهناك وجوب احترام قواعد الشرع
الإسلامي.
لاشك أن نظام الطعن بالنقض بصفة عامة، وفكرة التمييز بين الواقع والقانون بصفة
خاصة وليد ظروف تاريخية وسياسية عاشتها فرنسا عبر تاريخها القديم والحديث، لذلك
فإن الدراسة التي نحن بصددها تظل ناقصة إذا لم تستعرض جانيا من هذا التاريخ.
وكنتيجة لوضع المغرب تحت الحماية الفرنسية ابتداء من 30 مارس 1912، احتك هذا
البلد لأول مرة في تاريخه ببعض النظم القضائية الوضعية السائدة آنذاك في فرنسا،
ومن ضمنها بالخصوص نظام الطعن بالنقض، رغم أن الهيئة القضائية التي كان لها حق
الإشراف عليه كانت توجد باريس.
ورغم أن كل بلاد العالم تقريبا تعرف في الوقت الراهن نظام الطعن بالنقض، إلا
أنها كثيرا ما تختلف حول طبيعته وحول أهدافه بالشكل الذي سوف نوضحه لاحقا.
فهناك تشريعات تعتبر فيها محكمة النقض محكمة قانون، وليست محكمة واقع كما هو
الحال بالنسبة لمحكمة النقض الفرنسية ونظيراتها في بلجيكا وإيطاليا ومصر والمغرب.
وهناك على النقيض من ذلك تشريعات أخرى تعتبر فيها محكمة النقض درجة من درجات
التقاضي، إذ هي في حقيقة أمرها محكمة عليا للاستئناف، ويوجد هذا النموذج بالخصوص
في بريطانيا وكندا والسويد وبولونيا واليابان.
وهناك تشريعات وقفت موقفا وسطا، إذ تعتبر فيها محكمة النقض محكمة قانون ولكنها
تصدر في بعض الأحيان أحكاما في الموضوع، كما هو الحال بالنسبة للمحكمة العليا
الألمانية والمحكمة العليا الهولندية.
ومن حيث الهدف، فإن نظام الطعن بالنقض في التشريعات السائدة في أغلب الدول
البسيطة يختلف عن نظيره في التشريعات السائدة في بعض الدول الفدرالية. وقد يختلف
هذان الأخيران عن الأنظمة المتواجدة في القوانين الأنجلو سكسونية.
وحتى تكتمل الصورة لدى القارىء الكريم، ارتأينا أن نقدم لهذه الدراسة ببحث
تمهيدي تلقي من خلاله نظرة موجزة عن تطور فكرة الطعن بالنقض في كل من فرنسا والمغرب، مرورا بمفهومها في الفقه الإسلامي، قبل إعطاء صورة مبسطة
عن نظام الطعن بالنقض ووظيفته في التشريع المقارن.
سابعا - المنهاج :
فصل تمهيدي : فكرة أولية عن نظام الطعن بالنقض.
الفرع الأول : الملامح التاريخية لنظام الطعن بالنقض.
الفرع الثاني : مظاهر الطعن بالنقض في القوانين المقارنة.
الباب الأول : مجال رقابة محكمة النقض.
الفصل الأول : مفهوم القانون من وجهة قضاء النقض.
الفصل الثاني : الواقع والقانون من خلال نشاط قاضي الموضوع.
الباب الثاني : أسباب الطعن بالنقض
الفصل الأول : أسباب الطعن بالنقض بناء على خرق القانون.
الفصل الثاني : أسباب الطعن بالنقض بناء على الخلل في التسبيب.