تقادم العقوبة في المادة الجنائية
(من خلال قراءة قرارين، قرار محكمة الاستئناف
27/4/2016 و قرار محكمة النقض 12/7/2017)
أولا : التقادم في المادة المدنية:
إن التقادم في القانون المدني على نوعين مكسب
ومسقط، فالتقادم المكسب هو الذي يسمح لحائز الحق العيني أن يكسب هذا الحق إذا استمرت
حيازته مدة من الزمن عينها القانون وهو لا يهم إلا العقارات غير المحفظة[1]، أما
التقادم المسقط فهو سبب يؤدي إلى انقضاء الحقوق المتعلقة بالذمة المالية ولا سيما
الالتزامات إذا تهاون صاحبها عن ممارستها أو أهمل المطالبة بها خلال مدة معينة
يحددها القانون [2].
فالزمن الذي يتغلب على كل شيء والذي ينال من
المؤسسات والقوانين والكلمات، يهدم الحقوق كذلك، فيدفع بها إلى عالم النسيان
ويجعلها تتلاشى لمجرد أنها بقيت راكدة مدة طويلة دون أن تستعمل أو يطالب بها.
وتلاشي الحق بالتقادم يعني طبعا منع سماع
الدعوى به وقد وجد المشرع أن يؤكد على هذا المعنى عندما أوضح في الفصل 371 من
قانون الالتزامات والعقود الذي استهل به بحث التقادم أن:
" التقادم خلال المدة التي يحددها
القانون يسقط الدعوى الناشئة عن الالتزام ".
والتقادم في القانون المدني ليس من متعلقات
النظام العام، فلا يجوز للقاضي الاستناد إليه من تلقاء نفسه بل لا بد لذي المصلحة
من التمسك به و إثارته من نفسه ليحكم به القاضي، أما إذا أهمل المدعى عليه التمسك
بالتقادم فإنه يمتنع على القاضي الأخذ به من تلقاء ذاته لأن رد الدعوى بالتقادم
كردها بقوة الشيء المقضي لا يحكم به إلا بطلب من الخصوم، فقد جاء في الفصل 372 من
قانون الالتزامات و العقود على أن : " التقادم لا يسقط الدعوى بقوة القانون،
بل لا بد لمن له مصلحة فيه أن يحتج به و ليس للقاضي أن يستند إلى التقادم من تلقاء
نفسه ".
وترجع علة تقرير التقادم المسقط إلى اعتبارات
تتعلق بالنظام العام والأمن المدني في الجماعة، فمن مصلحة الجماعة تصفية المراكز
القديمة ومنع إثارة المنازعات في شأن عقود أو وقائع قدم عليها العهد بحيث يغلب فقد
السندات الخاصة بها أو استحالة تذكرها، مما يتعذر معه على القضاء تبين وجه الحق
فيها[3]، ويضاف
إلى هذا الاعتبار الذي تسنده مصلحة الجماعة، اعتبار آخر تسنده مصلحة المدين ويبروه
إهمال الدائن، ذلك أن في السكوت عن المطالبة بالحق قرينة على الوفاء مما يرفع
الحرج عن المدين فلا يضطر إلى الاحتفاظ بالمخالصة بالدين إلى مالا نهاية، بل يكفيه
احتفاظه بها طوال المدة التي قررها المشرع السقوط حق المطالبة، فإن انقضت هذه
المدة كان له إعدام هذه المخالصة أي سند الوفاء وهو امن على نفسه شر مطالبة الدائن
مرة أخرى.
على أن قرينة الوفاء مستمدة من سكوت الدائن
عن المطالبة بحقه خلال مدة معينة ليست هي الوجه الوحيد من أوجه رعاية المدين على
حل الدائن المهمل، بل هناك وجه آخر يتمثل في منع تراكم الديون على المدين مما قد
يؤدي إلى تكليفه بما يتجاوز طاقته ولكل من هذين الاعتبارين أثره في مدى حق المدين
في التمسك بالتقادم، فإذا كان مبنى التقادم هو قرينة الوفاء فلن يستطيع المدين
التمسك به إذا كان قد اعترف بعدم الوفاء أو بدأ بإنكار مديونيته في حين أن له
التمسك بالتقادم و لو بعد إقراره بوجوب الدين في قمته إذا كان مبنى التقادم هو منع
تراكم الديون على المدين .
التقادم هو في الأصل من أنظمة القانون الخاص
المنحدرة من الشريعة الرومانية، حيث تسقط الديون بتقادم العهد على عدم المطالبة
بالوفاء بها، و من هنا تسقط الجريمة والعقوبة بالتقادم على اعتبارهما من قبيل
(الدين) في ذمة المجرم يسقط بالتراخي في إقامة الدعوى الجنائية أو في تنفيذ
العقوبة المحكوم بها فترة من الزمن تتناسب مع جسامة كل جريمة أو كل عقوبة وتتفاوت
بالتالي بين الجنايات والجنح و المخالفات، و الشريعة الإسلامية كقاعدة عامة لا تقر
هذا النظام وإن كانت في المجال الجنائي تقوم على مفهوم العدالة و الحقانية.
فالقصاص حق خالص للفرد ولا يسقط من ثم إلا
بالعفو أو الصلح على المال أي الدية، أما الحدود فإن الرأي عند الجمهور (مالك
والشافعي وأحمد ابن حنبل) أنها لا تسقط إلا بالتوبة في بعضها، وذلك لتعلقها بحق
الله تعالى.
ثانيا: تقادم العقوبة في المادة الجنائية
نظم المشرع المغربي أحكام السقوط بالتقادم -
للدعوى الجنائية وللعقوبة - ، هذا وإن كان سقوط الدعوى الجنائية بمضي المدة - أي
تقادم العهد - يعني سقوط الجريمة وكأنها لم تكن، كما أن سقوط العقوبة بهذا الطريق
يساوي العفو عنها، أي أن تقادم الدعوى أو العقوبة إنما يحدث أثرا موضوعيا في شأن
الجريمة أو العقوبة يؤدي إلى زوالها، ومن أجل هذا فإن قوانين التقادم تعتبر في
الغالب من القوانين الجنائية الموضوعية[4] التي
تخضع على مقتضى ذلك لقاعدتي عدم الرجعية بالنسبة للأسوأ، والرجعية بالنسبة للأصلح الذي
حرصت محكمة النقض في القرار الصادر عنها بتاريخ 12/07/2017 تحت عدد 802/5- المنشور
في هذا العدد من مجلة المحاكم المغربية.[5]
غير أن القرار الاستئنافي موضوع التعليق خرج
عن المبدأ القانوني أعلاه مقرراً بأن القرار قبل إتمام تنفيذ العقوبة الحكوم بها
عليه يوقف سريان تقلام ما تبقى من مدة العقوبة المحكوم بها، وهنا يحق التساؤل ما
إذا كان بالإمكان اعتبار واقعة القرار من المسائل الموقفة السريان تقادم العقوبة؟
وهذا التساؤل يؤدي إلى طرح تساؤل آخر يهدف. إلى تحديد الإطار القانوني العقوبة،
ومن جهة أخرى هل يمكن الحديث عن توقف تقادم العقوبة ؟.
ثالثا : مدلول العقوبة ومدلول التقادم
يجدر أولا التطرق إلى مدلول العقوبة (أ)، قبل
دراسة المقصود بتقادم العقوبة (ب).
1- مدلول العقوبة.
يمكن القول بأن الجزاء الجنائي أو العقاب
الجنائي له مفهوم تقليدي محمد ذلك أن الجزاء الجنائي هو الجزاء الذي قرره المشرع
الارتكاب الجريمة.
والجزاء الجنائي وفقا لهذا المفهوم إنما تنهض
وظيفته على تحقيق العدالة، فهي إذن وظيفة تقوم على أساس أخلاقي أي أن لها وظيفة
أخلاقية.
وبجانب الوظيفة الأخلاقية السابق الإشارة
إليها للجزاء الجنائي توجد أيضا وظيفة أخرى وهي الوظيفة النفعية، تلك الوظيفة التي
نادت بها المدرسة التقليدية التي تزعمها الفيلسوف بكاريا في المجال الجنائي منذ منتصف
القرن الثامن عشر.
-------------------------------------------
للاطلاع على التعليق
كاملا يرجع تحميله بالضغط هنا
لمراجعة القرار
الاستئنافي أعلاه اضغط هنا
لمراجعة قرار محكمة
النقض أعلاه اضغط هنا
[1] ينص الفصل 63 من القانون رقم 07-14 المتعلق بالتحفيظ العقاري بالقول:
" إن التقادم لا يكسب أي حق عيني على العقار المحفظ، في مواجهة المالك الميت
ولا يسقط أي حق من الحقوق العينية المقيدة بالرسم العقاري"
[2] ينص الفصل 387 من قانون الالتزامات والعقود على أن: " كل الدعاوى
الناشئة عن الالتزام تتقادم بخمس عشرة سنة، فيما عدا الاستثناءات الواردة فيما
بعد، والاستثناءات التي يقضي بها القانون في حالات خاصة".
[3] د/أنور سلطان : "النظرية العامة للالتزام - الجزء الثاني، أحكام
الالتزام، دار المعارف بمصر 1963، الصفحة 451 وما بعدها.
[4] حسن الفكهاني، موسوعة القضاء و الفقه للدول
العربية، الجزء 119، القانون الجنائي، المدخل و أصول النظرية العامة، الصفحة 663
وما بعدها.
[5] راجع نص هذا القرار في العدد من المجلة ص 133.