المحتويات

التفريد القضائي للعقوبة بين الضوابط القانونية و التطبيقات القضائية PDF

 


مقدمة:

إن ظاهرت الجريمة في المجتمعات البشرية ليست ظاهرة جديدة و لا حدثا طارئا، إنها نشأت مع الانسان و تطورت تطورا موضوعيا باختلاف العصور و الثقافات و المكونات. و كانت غاية المجتمع دائما هي البحث و إيجاد السبل الكفيلة بالحماية منها أو المنع من وقوعها، من خلال العناية "بالمجرم" باعتباره الهدف المنشود إصلاحه.

فإذا كان علم الاجرام Criminologie يعني بدراسة المجرم بعد ارتكاب الفعل بغاية الوصول إلى الوسائل الكفيلة لإعادة إدماجه في المجتمع، فإن علم العقاب  Phénologie يعنى بالعقوبة الجناية بغاية تقرير ما يصلح منها لإعادة إدماجه أيضا في المجتمع، فهو يعني بالوسائل الزجرية و التدابير الوقائية من الجريمة في نفس الوقت[1] .

فقد كان طبيعيا أن تتطور فكرة العقاب كما تطورت ظاهرة الجريمة، إذ لم يعد للعقوبة ذلك المفهوم الضيق المبني على فكرة الانتقام من الفاعل عن طريق إيلامه جسديا، بل أصبحت ذات مدلول اصطلاحي يهدف المجتمع منها إلى إصلاح الجاني و تأهيله بغية إعادة إدماجه داخل المجتمع .

فالعقوبة إذن مقررة لمصلحة المجتمع، و المجتمع وحده هو صاحب الحق و الصفة في المطالبة بتوقيعها عن طريق الأجهزة التي تمثله في ذلك، وفق الأوضاع و الشروط التي يحددها القانون.

و الدولة لا تستطيع أن تلجأ إلى التنفيذ المباشر للعقوبة إذ لا بد من الالتجاء إلى القضاء ليؤكد لها حقها في العقاب و يحدد العقوبة الواجبة التطبيق من حيت الكيف و الكم معا[2].

فالمشرع المغربي ينص على مبدأ قضائية العقوبة في المادة 2 من قانون المسطرة الجنائية حينما أكد أنه "يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات….." ذلك أن تدخل جهاز القضاء في تطبيق العقوبات يشكل ضمانة للحريات الفردية و الجماعية و يبقى دوره أساسيا لا من حيث إثبات الجريمة و فرض العقوبة فحسب، و لكن أيضا في الاختيار المتعلق بالعقاب المناسب، و هو ما يقتضي من القاضي الجنائي أن يجري تقويما لشخص مجرم نفسانيا و اجتماعيا و ثقافيا و أن لا يقتصر على مجرد دراسة القضية من وجهة ثبوت الفعل أو عدم ثبوته .

إن المهتمين بالسياسة الجنائية يولون هذه النقطة أهمية بالغة و يركزون على ضرورة قيام القاضي الجنائي بدور تقويم الفاعل من الناحية النفسانية و ألا يقتصر على تقويم الفعل من الناحية الاجرامية، إنهم يكادون يعتبرونه من هذه الوجهة طبيبا نفسانيا أكثر من قاضيا.

إلا أن هذا الدور ليس سهلا كما يبدو، إنه يتطلب من القاضي الجنائي دراسة خاصة و خبرة دقيقة .

و مع لك فهو مطالب باستعمال مواهبه لاختيار العقاب أو الإجراء المناسب الذي يرى بمحض تقديره أنه سيحول دون عودة المجرم إلى ارتكاب الجريمة.

فهو من هذه الناحية يختار العلاج الأكثر ملائمة للحيلولة دون ارتكاب الجريمة مرة أخرى من طرف الفاعل عن طريق إيقاع العقاب المناسب عليه، و في حدود الاختيارات التي يحددها القانون.

و من ثمة نجد أن القانون يمنح للقاضي السلطة التقديرية في تفريد العقوبة، فبدون السماح للقاضي بقدر من الحرية لا تقوم للتفريد القضائي قائمة، و هذا هو السبب الذي دفع جل التشريعات إلى الاعتراف للقاضي بسلطة تقديرية، ثم الاعتراف له بعدة وسائل تشريعية كظروف التخفيف و ظروف التشديد بغية تدعيم تلك السلطة و توسيعها أكثر[3].

و في هذا الاطار يقضي الفصل 141 من القانون الجنائي بأن "للقاضي سلطة تقديرية في تحديد العقوبة وتفريدها، في نطاق الحدين الأدنى و الأقصى المقررين في القانون المعاقب على الجريمة، مراعيا في ذلك خطورة الجريمة المرتكبة من ناحية، و شخصية المجرم من ناحية أخرى".

إن مهمة تحديد العقوبة وتفريدها تقتضي ممن القاضي الجنائي أكثر من تطبيق القاعدة القانونية على الجاني في إطار العقوبة المحددة قانونا للفعل الجرمي المرتكب من قبله، إذ يبقى مطلوبا منه إضافة إلى التحقق من صدور الفعل ومن توفر عناصر تجريمه وكونه صادرا عن الفاعل نفسه أن يدرس شخصية الفاعل و أن  يعرف الظروف التي صاحبت ارتكاب الفعل، بل عليه أن يغوص أكثر لمعرفة البواعث و الدوافع المؤدية له، حتى يستطيع أن يتخذ القرار المناسب و يفرض العقاب الملائم.

إنه في هذه الحالة يكون أشبه بالطبيب الذي يفحص ذات المريض ليصف له الدواء النافع والعلاج الناجع، فليس عبثا أن يصف الناس القاضي الجنائي بالطبيب الاجتماعي[4].

لذلك ينبغي التأكيد على أن مهمة القاضي الجنائي في مجال عمله الواسع قد تطور اليوم من التطبيق المجرد للقانون إلى التطبيق الحي لسياسة جنائية و اجتماعية واعية و متطورة تأخذ في مبادئها و أسسها عدة عوامل لا تعود فقط إلى الاعتبارات العقابية الجامدة و لكن تتعمق أكثر في الملابسات و الظروف و البواعث مما يسمح له باستعمال و سائل أنجع لإصلاح المجرم و تقويمه.

إن القاضي الجنائي باعتباره المحور الرئيسي في نظام العدالة الجنائية بحكم توليه مهمة السهر على حسن تطبيق القانون و مباشرته تفريد العقوبة و تحديدها، بل و حتى إشرافه على تطبيقها فهو يشكل بذلك الضمانة الأساسية لنشر الأمن و الطمأنينة و الاستقرار عن طريق مساهمته في مجال مكافحة الجريمة.

فبالنظر لما عرفته الجريمة من تطور و تعقد و اختلاف بحكم تشعب مناحي الحياة و تطورها نتيجة الطفرة العلمية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي شهدها عالمنا المعاصر كان لا بد للقضاء الجنائي أن يطور أليات اشتغاله و ذلك باعتماده مقاربة تضمن الحد من الجريمة و معاملة  الجانح وفق أسس تحفظ سبل انخراطه و تعايشه بشكل سليم داخل المجتمع خصوصا و أن قضائنا الجنائي لم يعد يعالج فقط تلك القضايا البسيطة و المتعلقة ببعض جرائم الحق العام ضد الأشخاص أو الأموال بل أصبح يعالج قضايا ذات أهمية قصوى تحظى بمتابعة للرأي العام بالنظر لخطورتها أو مركز مرتكبيها، فتفريد العقوبة بالنسبة للجرائم الإرهابية أو جرائم الأموال او جرائم الصحافة أو الجرائم الالكترونية أو غيرها ليس بالأمر الهين، إذ أن انخراط القضاء الجنائي في مكافحة الجريمة يستدعي تجاوز الطرح التقليدي في تحديد فعالية القوانين ذات الصلة بالتجريم و العقاب و أساسا القوانين الجنائية العامة و الخاصة و التي ينبغي على المشرع أن يحينها و يطورها بالشكل الذي يساعد القاضي الجنائي و يتيح له مجالا أوسع للتحرك و اختيار العقوبة الملائمة و التي من شأنها تحقيق أهداف الإصلاح و إعادة الإدماج داخل المجتمع.

لكن اتساع سلطة القاضي الجنائي في تفريد العقاب في مفهوم السياسة الجنائية الحديثة يستدعي أن تبقى تلك السلطة خاضعة لحدود قانونية و ضوابط علمية، ذلك أن كل سلطة كيفما كانت لا بد للوصول إلى تحقيق أغراضها و الحيلولة دون انحرافها و شططها أن توضع لها حدود و ضوابط.

فهل يمكن فعلا  ضبط هذه السلطة؟ و هل لا يتعارض هذا التحديد و السياسة  الجنائية الحديثة التي تقضي بتفريد العقاب تبعا لكل حالة على حدة؟ و هل تخضع سلطة القاضي الجنائي في تفريد العقاب لرقابة قضائية أم لا؟ و ما هي إذن الضمانات التي ينبغي توفرها في القاضي الجنائي حتى نكون أمام أحكام تستجيب و تحقق الغاية من وراء التفريد و المتمثلة في إصلاح الجاني و إعادة إدماجه داخل المجتمع؟ ألا يفرض التطور الحاصل في مجال الجريمة ضرورة تأهيل و إعداد و تخصص القاضي الجنائي؟ ليس فقط في المجال الزجري و إنما في شق معين داخل هذا المجال كتوليه مهمة البث مثلا في جرائم الأموال أو الأشخاص أو الإرهاب أو الصحافة؟

و ربما أن نظامنا القضائي قد كان سباقا في أخذه هذا المنحى و هو ما لا مسناه  من خلال التدريب الذي تلقيناه داخل ردهات المحاكم، و هو ما يشكل مؤشرا إيجابيا لمواكبة القضاء الجنائي المغربي للتطور و التغير الحاصل في مجال الجريمة.

إن اختاري لإجراء بحث حول موضوع "التفريد القضائي للعقوبة بين الضوابط القانونية و التطبيقات القضائية" نابع من إيماني العميق بأهمية الموضوع و حساسيته بحكم ما عرفته مؤخرا ظاهرة الجنوح من تفشي، و ما أبانت عنه العقوبات السالبة للحرية من عدم النجاعة أحيانا و انتقاد أحيانا أخرى بشكل يفرض ضرورة التفكير في اللجوء لبدائل للعقوبات السالبة للحرية و تفعيلها.

و لا غرو في أن السبيل إلى إرساء مقومات عقابية ناجعة و أكثر مرونة و مواكبة للمستجدات يستدعي مكاشفة وضع السياسة العقابية القائمة من خلال رصد مواقع الخلل و تجاوز السلبيات التي تعيق تحقيق أهداف الإصلاح و إعادة الإدماج المنشودة.

و من هذا المنطلق فإن الاهتمام بتفريد العقوبة في علاقته بالتقليل من عدد المعتقلين و توفير فرص أكثر لإصلاحهم و إعادة إدماجهم يقتضي التطرق للموضوع من خلال زاويتين أساسيتين، انطلاقا من دراسة و تحليل الأليات القانونية المتاحة للقاضي الجنائي و التي يجد نفسه ملزما بالاعتماد عليها و الاشتغال في نطاقها، و من ثم الارتكاز على دراسة و تقييم نماذج من الأحكام و القرارات القضائية باعتبارها مؤشرات أساسية تعبر عن مدى انسجام الممارسة القضائية الراهنة مع المتطلبات المشروعية في نهج سياسة عقابية إصلاحية تحد من تفاقم الجريمة.

هذه إذن مختلف الإشكالات و التساؤلات الكبرى التي سنحاول الإجابة عنها ضمن هذا البحث المتواضع قدر الإمكان، معتمدين في ذلك على أسلوب التحليل و النقد البناء مع التركيز بشكل كبير على الواقع العملي و التطبيقات القضائية لمبدأ تفريد العقاب، من خلال دراسة و تحليل الأحكام و القرارات القضائية الصادرة مع الاعتماد على الاحصائيات المتوفرة حول نوعية العقوبات المحكوم بها و مقدارها، بغية التوصل إلى وضع اقتراحات عملية تساهم في إثراء و إغناء ما تحقق من مكتسبات، بشكل يفضي إلى تحديث الوضع العقابي الراهن و ملائمته لأهداف الإصلاح المتوخاة، و التي تشكل قطب الإصلاح القضائي الذي يعد من أبرز التحديات الملقاة على عاتق القضاء باعتباره أداة مؤسساتية مهمتها الأساسية حماية الحقوق و الحريات و خدمة المواطن.

      خطة البحث:

لقد اقتضت منا طبيعة البحث تناوله ضمن فصل تمهيدي  و فصلين أساسيين.

إذ تم التطرق خلال الفصل التمهيدي إلى تحديد مفهوم تفريد العقاب بصفة عامة و تبيان أهميته، و أنواعه بغية إعطاء القارئ فكرة عامة عن مؤسسة تقريد العقاب و موقعها داخل السياسة العقابية.

و من خلال الفصل الأول تم التطرق إلى سلطة القاضي الجنائي في تفريد العقوبة و ذلك انطلاقا من مناقشة حدود السلطة التقديرية التي يتمتع بها القاضي الجنائي عند تفريده للعقوبة على مستوى اختياره لنوع العقوبة التي سيحكم بها سواء كانت سالبة للحرية أم غرامة مالية أو تدبيرا وقائيا، أم على مستوى تقديره الكمي لها.

كما تم التطرق إلى المعايير و الضوابط التي يسترشد بها القاضي الجنائي و هو بصدد ممارسته لسلطته التقديرية في تفريد العقوبة.  و ذلك مع تطعيم المناقشة بالتطبيقات القضائية الجاري بها العمل داخل العمل القضائي ضمن محاكم التدريب بغية ملامسته لواقع هاته السلطة التي يتمتع بها القاضي و كيفية إعماله لا بخصوص القضايا التي تعرض عليه.

أما في الفصل الثاني من هذا البحث فقد تم التطرق إلى مؤسسة  التفريد القضائي للعقوبة انطلاقا من تحديد الدور الذي تلعبه فب مكافحة الجريمة، عن طريق نهج سياسة عقابية ملائمة للتوجهات العامة التي تحدد من خلال السياسة الجنائية المتبعة داخل الدولة، من تبيان الدور الأساسي الذي يضطلع به القاضي الجنائي انطلاقا من موقعه و باعتماده تفريد العقاب في مكافحة الجريمة و الوقاية منها و ما تفرضه عليه جسامة المسؤولية و خطورتها و أهميتها من تأهيل و تكوين و تخصص تشكل عوامل رئيسية لقيامه بالمهمة المنوطة به أحسن قيام.

و في الخاتمة استجمعنا خلاصة ما تم التوصل إليه خلال هذا البحث في مؤسسة التفريد القضائي للعقوبة.

و عساي أن أكون قد وفقت في ما صبوت إليه، و ما توفيقي إلا بالله و ليس لي إلا أن ألتمس العذر من القارئ الكريم على ما يجده من قصور، الذي سنفتح له الصدور و نتقبل منه كل نقد بكل سرور.

 

لتحميل البحث كاملا يرجى الضغط هنا



[1] السياسة العقابية للأستاذ بلقاسم الفاضل منشور بمجلة الساسية الجنائية بالمغرب، واقع و أفاق، و زارة العدل العدد 3-2004، ص: 83

[2]  عبد السلام بنحدو، الوجيز في القانون الجنائي المغربي، طبعة 1997 ص: 283 .

[3]  لطيفة المهداتي، حدود سلطة القاضي التقديرية في تقرير الجزاء، ط 2007 ص 11 .

[4]  الأستاذ أحمد السراج الاندلسي، تظام العدالة الجنائية و دور القاضي و رجل القانون في مكافحة الجريمة و الوقاية منها منشور بكتاب دور في الوقاية من الجريمة و الانحراف، الرباط، ص: 119

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-